أجمل ما قيل في وصف مليشيات الدعم السريع “مليشيا جوهرها إرهابي المذهب، إنقلابيالتوجه، إحتلالي الدوافع، أجنبي الرعاية”
في ظل محاولات مليشيات الدعم السريع اليائسة لفرض واقع جديد في السودان تم تداول أنباء حول إرسال مليشيات أل دقلو لوفد يتقدمه “نصر الدين عبد الباري” و “طه إسحاق” إلى كينيا لمطالبتها بالإعتراف بحكومة تسعى المليشيا الإعلان عنها في أماكن سيطرتها، وفي حال إعتراف نيروبي بحكومة تشكلها تلك المليشيا فهذا يعني إعلان صريح للحرب على الدولة السودانية ومقدراتها، ولا أعتقد أن نيروبي في ظل حالة الإنشقاق الداخلي بين أذرعها الأمنية بحاجة إلى فتح جبهة حرب مع دولة بحجم السودان، فالإدارة الكينية الجديدة بقيادة “وليم روتو” إن لم تكن مُدركة لعواقب ما ستقدم عليه إن فعلت ذلك، فهناك كوادر وأجهزة ومؤسسات كينية عريقة لها تاريخها الإستخباراتي والأمني في الشرق الإفريقي وقطعاً هي ترى ما لا تراه المؤسسة الرئاسية الكينية، وبالتالي هي مدركه للنتائج المترتبة لحالة الإقدام على القبول بحكومة مليشيا “متعددة الجنسيات” على مرمى حجر منها تماماً كإدراكها للتقاطعات التي حالت بينها وبين جوارها الإقليمي منذ سبعينات القرن الماضي حتى الأن.
في حال إستجابة نيروبي لطلب مليشيا الدعم السريع يرجح أن تقوم الخرطوم بتنظيم خلية أمنية سودانية سرية لتوسيع هوة الشق بين إدارة الرئيس “وليام روتو” والمؤسسة الأمنية الكينية لضرب كافة المساعي لتضيقها، وإحباط كافة الترتيبات الأمنية التي تقوم بها نيروبي للحصول على دعم الزعماء التقليدين القابعين في منطقة “Rift Valley”، فنيروبي اليوم تواجه أكبر تهديد أمني داخلي بسبب ضعف التعاون بين الجيش والأجهزة الأمنية “الجيش والشرطة”، وبرزت صعوبات التنسيق بين الطرفين في وادي رفت الشمالي منذ عام 2023 مما دفع المؤسسة الرئاسية الكينية إلى عقد إجتماع أمني رفيع لكبار المسؤولين الأمنيين التابعين لمجلس الأمن القومي ورؤساء أركان الجيش السابقين، وإنتهى ذلك الإجتماع وبإعتراف الإدارة الكينية بالصعوبات الأمنية الجمة في إدارة قوات الدفاع الكينية وهذا ما يُفّسر إقالة وزير الدفاع الكيني ذو الأصول الصومالية “أدن دوالي” مؤخراً، وفي حال إستثمارالخرطوم لحالة التدهور الأمني الداخلي التي تسيطر على الداخل الكيني فيقترح إحالة تلك العملية للسيد “قطبي المهدي” القيادي السابق في حكومة الإنقاذ السودانية لعلاقاته الأمنية الواسعة والمتعددة والقوية مع كبار المسؤولين الأمنيين في كافة دول الشرق الإفريقي والتي تكشفت خيوطها في حقبة التسعينيات أبان هروب مرتكبي تفجير السفارات الأمريكية في نيروبي ودار السلام إلى الخرطوم وما أعقب ذلك من تجاذبات سياسية -أمنية- إستخباراتية -إجتماعية فرضتها الخرطوم وأدركتها نيروبي.
وبعد فشل مفاوضات جنيف ساد الهدوء “المفتعل” الإدارة الأمريكية، فالإرتباك الذي يحيط بشخصية المبعوث الأمريكي للسودان “توم بيرييلو” والذي يحاول جاهداً أن يخفيه، ما هو إلا تأكيد لحالة المراوغة السياسية التي تحيط بالدبلوماسية الأمريكية في السودان، فواشنطن لا ترغب بحكم مدني حقيقي في السودان، شأنها في ذلك شأن كافة الأطراف الإقليمية الفاعلة في الملف السوداني، الفرق بين الإثنين أن واشنطن أدركت باكراً بل ووضعت ضمن أولوياتها وحساباتها الأمنية بأن لا تخرج للعالم بصورة علنية مضادة للإرادة الشعبية لإدراكها المسبق بأن معاداة الشعوب الحية الواعية “فكرياً، وسياسياً” هو أقصر الطرق لقتل حضورها المستقبلي في إفريقيا، خاصة في ظل التحولات المفصلية التي شهدتها القارة الافريقية خلال الخمس سنوات الماضية، وهذا ما يفسر حرصها الدائم على إستخدام تلك الأطراف لتنفيذ رؤيتها المستقبلية في سودان ما بعد البشير “وفقاً لوجهة نظر إفريقية”، ورسم خطاً لعلاقات سودانية جديدة مع محيطها الإفريقي والإقليمي والعالمي، والحديث بأن إستراتيجية المبعوث الأمريكي للسودان تتمثل في التركيز على المجموعات النخبوية والناشطين المؤيدين للديموقراطية على مستوى القاعدة الشعبية فهذا يذكرني بزيارة السفير الأمريكي وسفراء الإتحاد الأوروبي لساحة الإعتصام في الخرطوم أبان ثورة ديسمبر 2019 والتي قطعاً لم تأتي دعماً لمطالب المتظاهرين بمقدار ما هي تبرئة لساحة واشنطن ورديفها الغربي عند إمتلاء تلك الساحة بدماء المتظاهرين، أما طرح قرار حظر التسليح ضد الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع الذي جاء على لسان المبعوث الأمريكي قبل أيام فما هو إلا إقرار “أمريكي” بإستحالة هزيمة الجيش السوداني وإيذاناً ببدء إنتهاء فصول “النزهة العسكرية” التي أرادوا إعادة ملامحها وتكرار ظروفها في “الخرطوم “بعد نجاحها في “بغداد” عام 2003، فما كان لذلك الطرح أن يُعلن عنه ناهيك عن التهديد بتطبيقه لولا صمود المؤسسة العسكرية الوطنية السودانية وتنظيمها العملياتي لميادين المعارك، فأصبحت مسألة القضاء على مليشيا الدعم السريع ليست محل نقاش حتى على المستوى الشعبي ناهيك عن مستوى القيادات العسكرية السودانية.
رغم تدني وعيها السياسي تدرك مليشيا الدعم السريع وذراعها السياسي “تنسيقية تقدم” بأن التطورات المتلاحقة في الساحة السودانية اليوم خاصة بعد فشل مفاوضات جنيف لن تسير “مستقبلاً” وفق ما تم رسمه لها لإفتقارهاإلى الحاضنة الشعبية السودانية التي تمثل جل الأصوات الوطنية والتي فقدتها بعد 15 إبريل 2023، ولا غفران لما إرتكّبَ بعدها، حتى وإن إفترضنا بأن المليشيا وربيبتها وجدوا سند دولي يدعم إطلاق يدهم لإدارة سودان ما بعد البشير فبأي إجماع شعبي سيحكمون؟ وبأي تصور سياسي سيصيغون حضورهم الإقليمي والدولي وبأي رؤية سيطبقونه؟، فلا يمكن القبول بمشاركة من رفع السلاح ضد الدولة وهدد أمن وسلامة مؤسساتها المدنية والعسكرية، وساهم وما زال يساهم في تجريف تاريخها وهدم أساسها وإستئصال شعبها وطمس حضارتها بعد إن إرتضى بأن يكون معول هدم بيد أطراف لا تعرف من السودان إلا إسمه، وجاء تصريح المبعوث الأمريكي “توم بيرييلو” بقوله “لا مستقبل للدعم السريع في السودان، والجيش السوداني هو مؤسسة لها تاريخ”، وتصريح وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” بأن قوات الدعم السريع إرتكبتالتطهير العرقي وجرائم ضد المدنيين مؤكداً لذلك التصور الذي بات هاجساً يحاصر حراك المليشيا ومن يدور في فلكها، ويُذكرها كلما سهت بأن صلاحية إستخدامها قد شارفت على الإنتهاء بعد إخفاقها في تحقيق ما يُراد منها.
نظراً لتنامي حالة الإجماع الشعبي الداعم للقوات المسلحة السودانية، والتي رافقها تقدم العمليات العسكرية ونجاح الجيش في مواصلة حصد رؤوس قيادات مليشيا الدعم السريع أخرهم العقيد “فايز حامد” قائد عمليات المليشيا في غرب كردفان، وإستعادة منطقة “اللكندي” في ولاية سنار، وإندحار المليشيا من منطقة “بنزقة” و”جلقني” جنوب سنجة، وتحرير منطقة “البليحاب” في تخوم جبل مويه، أرى أن مليشيا أل دقلو ستعمل على تعزيز حضورها وستتجه في الوقت القادم في إتجاهين:
❖ الإعلان عن جولة إقليمية “موسعة” جديدة لقائد مليشيا الدعم السريع “حميدتي”، أو وفود تمثل المليشيا إلى بعض دول الجوار الإقليمي، ترويجاً لحكومة المليشيا المزعوم إطلاقها في أماكن سيطرتها، لإضعاف الإجماع الشعبي حول الجيش الوطني السوداني، إلا أن تلك الجولة لو حدثت فتأثيرها لن يتعدى سابقتها التي حدثت في يناير الماضي، فهي جولة تسويق وترويج ليس إلا، جولة مدفوعة الثمن لمن سيستقبل وفد المليشيا ولكنها قطعاً لا تؤسس لمرحلة سياسية قادمة في السودان،وهذه حقيقة يدركها هرم المليشيا “حميدتي” رغم ضحالة وتدني وعيه السياسي، فدول الجوار الإقليمي للسودان جميعها وبدون إستثناء تدرك خطورة مشروع حميدتي السياسي العابر للحدود الذي يستهدف تقويض مفهوم الدولة الوطنية في إفريقيا، وبالتالي سيسمح للعرقيات الإفريقية الأخرى بالمطالبة بمشاريعها التاريخية “دولة التوتسي الكبرى” و”الفولاني العظمى” وبالتالي ستعيد تلك الدول حساباتها الأمنية ورؤيتها المستقبلية لعلاقتها بالخرطوم.
❖ تطوير مستوى جهودها للحصول على مزيد من العتاد العسكري المتطور لتكثيف عملياتهاالعسكرية والهجوم على المناطق الواقعة تحت سيطرة الجيش السوداني في محاولة لتحقيق إنتصار خاطف، في ظل عدم نجاح المبعوث الأمريكي في تحقيق أولويته لوضع حد للدعم الأجنبي للأطراف السودانية المتحاربة.
لتعزيز حضور المؤسسة العسكرية السودانية “إفريقياً” يقترح القيام بالأتي:
▪ فتح خط للتعاون والتنسيق مع “Sant’Egidio” وهي منظمة عالمية تنشط في أماكن النزاعات خاصة في إفريقيا، وتقوم حالياً بنشاط واسع في إفريقيا الوسطى لإحياء” الإتفاق السياسي للسلام والمصالحة في جمهورية إفريقيا الوسطى” أو ما يُعرف دولياً بــ “إتفاقية الخرطوم” التي ولدت ونفذت برعاية “سودانية” عام 2018-2019، فهذه المنظمة تواجه اليوم صعوبة كبرى تتمثل في عدم قدرتها على تحقيق التوافق الكامل بين حكومة الرئيس “فوستن توديرا” والحركات المسلحة مثل” حركة السلام في وسط إفريقيا” أو ما تعرف بالفرنسية بــ”Mouvement pour la Paix enCentrafrique”، وتسعى إلى التواصل والتعاون مع الخرطوم لمساعدتها في ذلك، وبالتالي أمام القيادة السودانية عدة خيارات لإجبار بانغي على تغيير موقفها من الأزمة السودانية أو على الأقل تخفيف حدة تنسيقها الأمني مع مليشيات الدعم السريع.
▪ في حال إصرار بانغي على الإلتزام الأمني والإستخباراتي الداعم لمليشيات الدعم السريع يمكن للخرطوم القيام بالأتي:
❖ إعادة النظر في الإستجابة لمحاولات بانغي مع “Sant’Egidio” الساعية لوضع خارطة طريق لتحقيق السلام الكامل في إفريقيا الوسطى، والتي لن تتحقق إلا بموافقة الجنرال “ Bobo” رئيس مجموعة “3R“، “Ali Darasss” رئيس “UPC” ،و “Noureddine Adam” رئيس “FPRC”، من خلال قرب تلك الشخصيات الأنفة الذكر من المؤسسات الأمنية السودانية، وإرتباطها بعلاقات شخصية مع كبار القيادات السودانية الأمنية.
❖ التركيز على ملف “Firmin Ngrebada” رئيس الوزراء الأسبق لإفريقيا الوسطى “يمكن إستخدامهمستقبلاً”، ومن أهم الشخصيات المرشحة لقيادة إفريقيا الوسطى ، وهذا ما يخشاه الرئيس “توديرا” بدليل طلبه الأخير لموسكو بتخفيف طاقم الحماية الشخصية التي توفرها لــ”Firmin” والذي قوبل بالرفض القاطع في دلالة واضحة على صحة مخاوف المؤسسة الرئاسية في بانغي حول أثر الدور الروسي في النظام السياسي المستقبلي في إفريقيا الوسطى.
▪ في إطار التشاور والتباحث الذي تسعى إليه الإدارة الأمريكية مع القيادة السودانية لابد من الرد على تصريح المبعوث الأمريكي في السودان ” توم بيرييلو” والذي قال فيه نصاً ” قائد الجيش السوداني السيد عبد الفتاح البرهان كان منفتحاً على مشاركة الجيش في محادثات جنيف ولكن هناك قوى سياسية سلبية تعيقه”، وهنا لابد من إرسال رسالة واضحة للجانب الأمريكي بأن ثورة ديسمبر قامت بإسقاط نظام الإنقاذ لإنتزاع حق المواطن في حياة كريمة، وفرض واقع سياسي جديد يسع كافة الأحزاب بإختلافتوجهاتها، وليس لفرض نظام إقصائي يقصي أبناء الوطن الواحد لإنتماءاتهم الأيديولوجية حتى وإن فاقت كفاءتهم العلمية وخبرتهم العملية نظرائهم من الأحزاب الأخرى، هذا الإقصاء المزمع تنفيذه لن يتحقق في سودان المستقبل، وهنا تكمن القيمة الأخلاقية لثورة ديسمبر والتي لا تريد بعض الأطراف أن تدركها لثورة شعبية قامت من أجل وطن يسع الجميع لا مجال فيه لتخوين المواطن وإقصاءه وتغييب عقول يحتاجها الوطن في أدق مرحلة يعيشها، حتى وإن إختلفتإنتماءاتهم الفكرية، فلا جدوى ولا مجال لثقافة الإقصاء في شعوب نجحت في إنتزاع كرامتها، مهما تصاعدت موجات العودة للمربع الأول.
▪ تشكيل فرق “إعلامية” و “سياسية” تقودها كوادر سودانية مؤهلة لتبيان خطورة مشروع الدعم السريع السياسي العابر للحدود “الدولة العربية الممتدة” والذي يستهدف تقويض مفهوم الدولة الوطنية في إفريقيا ، ويقترح توجيه ذلك التحذير للرأي العام الإفريقي أولاً، بالتعاون مع الألة الإعلامية الرواندية، بإعتبار أن “كيغالي” هي التي تقود إستراتيجية الأمن الإقليمي في القارة الإفريقية، وبالتالي سترى أن مشروع مليشيا الدعم السريع هو مشروع سيقضي على جهودها المتطورة في تكريس إنجاح “إستراتيجية الأمن الإقليمي” والتي يراهن عليها الرئيس الرواندي”بول كاغامي”، وهذا ما سيساهم في إعادة طرح سيناريو التحالف الأمني الإفريقي بقوة، وهذا السيناريو الذي تسعى إليه رواندا منذ فترة لضم دول الوسط والساحل الإفريقي إليه خلال السنوات الخمس القادمة مما يعني تعزز الفرص السانحة لحصار نشاط مليشيا الدعم السريع والقضاء عليها.
نصر الله الجيش السوداني ووحد كلمته ،،،،
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي