شهدت العلاقات الجزائرية المالية حالة من التوتر غير المسبوق، ونشوب أزمة دبلوماسية جديدة بعد إسقاط طائرة استطلاع مسيرة تابعة لمالي.
وما بين اتهامات بالعدائية وبلاغات عن انتهاك للسيادة، تبرز الإشكالات العميقة التي لطالما ظلت تحت السطح منذ عقود.
هل يمكن للجارتين تجاوز توترات الماضي وبناء مستقبل أكثر استقرار.. “الرؤى الأفريقية” تسلط الضوء بقراء تحليلية عن الأزمة..
تصاعد التوتر.. حادثة إسقاط الطائرة تكشف هشاشة العلاقات
في 31 مارس، أعلنت مالي أن طائرة استطلاع مسيرة تابعة لها أُسقطت في منطقة حدودية مع الجزائر، متهمة الجارة الشمالية بـ”عمل عدائي مدبر”. جاء الرد الجزائري سريعا، إذ أكدت وزارة الدفاع أن الطائرة “اخترقت المجال الجوي بشكل غير قانوني”، مما استدعى تدخلا عسكرا مباشرا.
ورغم أن الحدث يبدو تقنيا في ظاهره، إلا أنه فجر أزمة دبلوماسية عميقة تخفي وراءها سنوات من التوترات المكتومة والتنافس الجيوسياسي.
جذور الأزمة.. خلافات قديمة في عباءة دبلوماسية
العلاقات بين الجزائر ومالي ظلت تقليديا “ودية” بحكم الجغرافيا وروابط التاريخ، لكن هذه الودية كانت دوما مغطاة بطبقة رقيقة من الحذر والتوجس.
الجزائر لطالما اعتبرت منطقة الساحل جزءا من مجالها الحيوي، ومالي — الدولة ذات الحدود الطويلة والمفتوحة — كانت دوما في موقع استراتيجي حساس.
وخلال العقود الماضية، لعبت الجزائر دور الوسيط في أزمات الطوارق شمال مالي، لكنها في الوقت نفسه سعت لتثبيت نفوذها هناك عبر اتفاقات سلام ورعاية محادثات بين الجماعات المسلحة والحكومة المالية.
في المقابل، ترى بعض النخب في باماكو أن الجزائر لم تكن “وسيطا نزيها” دوما، بل قوة إقليمية تسعى لإبقاء مالي في دائرة تأثيرها، دون منحها الاستقلالية الكاملة في قراراتها الأمنية.
تحولات إقليمية… وبروز محور جديد
منذ انقلاب 2021 في مالي وصعود حكومة انتقالية بدعم عسكري، بدأت باماكو تميل أكثر نحو محور جديد يضم روسيا، وبوركينا فاسو والنيجر — دول تتشارك توجهات معادية للنفوذ الغربي التقليدي.
في هذا السياق، تقلص دور الجزائر كوسيط تقليدي، وتراجعت ثقة مالي في المسار السياسي المدعوم من الخارج.
وتزايد النفوذ الروسي، لا سيما من خلال مجموعة فاغنر سابقا، عزز شعور الجزائر بأن أمنها الحدودي قد يكون مهددا بوجود أطراف غير موثوقة على بعد كيلومترات من أراضيها.
حادثة الطائرة.. الشرارة التي أشعلت الأزمة
حادثة إسقاط الطائرة جاءت في توقيت حساس، حيث كانت الجزائر قد استضافت وفدا من الجماعات المسلحة التي وقعت “اتفاق الجزائر للسلام” عام 2015.
ورأت باماكو في هذه الخطوة تدخلا مباشرا في شؤونها، واعتبرتها محاولة لزعزعة سلطتها على الشمال.
ومع إسقاط الطائرة، لم تكتف مالي بالتصعيد الإعلامي، بل سحبت سفراءها من الجزائر بالتنسيق مع حليفيها: بوركينا فاسو والنيجر، فيما بدا وكأنه إعلان ضمني عن نهاية مرحلة من التوازن التقليدي في المنطقة.
السؤال الراهن.. إلى أين تتجه الأزمة؟
رغم نبرة التصعيد، يدرك الطرفان أن الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة ليس في مصلحتهما، خاصة في ظل اشتعال عدة جبهات أمنية في المنطقة.
لكن استمرار الشكوك، وتداخل المصالح الإقليمية، قد يجعل من الأزمة الحالية بوابة لتغير أوسع في خارطة النفوذ في الساحل.
وحتى يتراجع التوتر، يبقى السؤال مفتوحا.. هل يمكن للجزائر ومالي تجاوز التاريخ المشحون وبناء ثقة حقيقية، أم أن المنطقة مقبلة على اصطفاف جديد سيغير قواعد اللعبة تماما؟
