في قلب الصحراء الكبرى، حيث تتداخل الحدود وتتعدد الولاءات، سقطت طائرة مسيرة لتحول منطقة تين زواتين الحدودية إلى ساحة صراع مفتوح على جميع الاحتمالات. الجزائر تؤكد إسقاطها لانتهاكها المجال الجوي بـ كيلومترين، مالي تنفي وتتهم “الخلل التقني”، ونشطاء أزواديون يروّجون لرواية ثالثة مفادها أن “جبهة تحرير أزواد” هي من أسقطتها. ثلاث روايات متضاربة، كل منها يحمل بين طياته أبعاداً جيوسياسية خطيرة، تكشف أن سقوط هذه الطائرة قد يكون مجرد قمة جبل الجليد في صراع الصحراء.
حارس الحدود الذي لا يتهاون…
لم تتردد الجزائر في إطلاق صواريخها تجاه الطائرة المسيرة فور رصد اختراقها للمجال الجوي، وفقاً للبيان الرسمي (الصورة رقم 1)، الذي أصدرته وزارة الدفاع الجزائرية، لكن الغموض يكتنف هوية هذه الطائرة، فلم تذكر الجزائر صراحة أنها تابعة للجيش المالي، رغم أن التوقيت والمكان يشيران إلى ذلك. هل كان هذا الصمت متعمداً؟
مصادر مقربة من القيادة الجزائرية تشير إلى أن البلاد لا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع جارتها الجنوبية، لكنها في الوقت نفسه ترسل رسالة واضحة: أي انتهاك للسيادة الجوية سيواجه برد حاسم. كما الهاشتاق الذي أطلقه ناشطون في الجزائر “#تتعدىحدودكينتهي_وجودك”
“الخلل التقني” والاتهامات الخفية
من جانبها، سارعت باماكو إلى تجاهل الرواية الجزائرية، رغم اعترافها بسقوط إحدى طائراتها في نفس التوقيت تقريباً. اللافت في الرواية المالية هو التأكيد على أن الطائرة سقطت بسبب “عطل فني” في منطقة غير مأهولة، وأن أنظمتها الأمنية منعت انفجار حمولتها. (الصورة رقم 2)، لكن خبراء عسكريون يشككون في هذه الرواية، مشيرين إلى أن الطائرات المسيرة الحديثة نادراً ما تسقط بسبب أعطال مفاجئة، خاصة أثناء تنفيذها لمهام روتينية.
وبذلك، هل تخفي مالي اختراقاً متعمداً للحدود الجزائرية؟ أم أن هناك أطرافاً أخرى وراء الحادث؟
ناشطون في مالي يحاولون التصعيد على خلاف الرواية الرسمية يتهمون الجزائر مباشرة بحماية الحركات الأزوادية و استهداف لسيادة مالي الوطنية مع تجاهل مافي الراوية من اختراق المجال الجوي الجزائري.
الرواية الأزوادية: لعبة بين الروايتين
النشطاء المؤيدون لجبهة تحرير أزواد التي تسعى لاستقلال إقليم أزواد، فقد قدموا رواية ثالثة تزيد الطين بلة. صورٌ لحطام الطائرة انتشرت على مواقع التواصل منذ الدقائق الأولى كالنار في الهشيم ، مع ادعاءات بأن “قوات محلية” هي من أسقطت المسيرة، رغم أن جبهة تحرير أزواد لم تتبنى رسميا الحادثة ففي الموجز المتقضب العاجل الذي أصدره المكتب الإعلامي للحركة أشار فقط إلى سقوط المسيّرة و طبيعتها دون أن يتبنى العملية بشكل صريح، (الموجز في الصورة رقم 3)
إلا أن تدوينة قصيرة للناطق الرسمي باسم الجبهة محمد مولود ولد رمضان أعطت طابعا رسميا لادعاءات الناشطين، (التدوينة في الصورة رقم 4).
مع ذلك هذا الادعاء يفتح الباب أمام أسئلة محرجة: هل تمتلك هذه الجماعات أسلحة متطورة قادرة على إسقاط طائرات مسيرة؟ فمنذ فترة ليست بطويلة كشفت تقارير عديدة أن بعض الفصائل في المنطقة حصلت على أسلحة مضادة للطائرات، من جهات خارجية وهو الأمر الذي يعتبره مراقبون جزء اساسي من الصراع الجيوسياسي في المنطقة.
تحليل … صراع النفوذ في الساحل
وراء هذه الحادثة تكمن معركة أكبر على النفوذ في منطقة الساحل، حيث تتصارع القوى المحلية والإقليمية والدولية، الجزائر، الحليف التقليدي لروسيا، تجد نفسها في مواجهة مع مالي التي تقترب أكثر من روسيا عبر مجموعة فاغنر لكسح التواجد الغربي التاريخي في هذا الجزء من الساحل، وفي الخلفية، تتحرك الحركات الانفصالية، على أمل الاستفادة من هذا الصراع لتعزيز علاقاتها مع الغرب.
المثير للقلق هو أن الحادثة تكشف غياب أي تنسيق أمني بين الجزائر ومالي، رغم أن البلدين يواجهان تهديدات متشابهة من الجماعات الجهادية. بل إن بعض المحللين يرون أن الحادث قد يكون مؤشراً على بداية موجة جديدة من التوترات، حيث تسعى كل طرف لاختبار قدرات الآخر.
ماذا بعد؟
هل كان اختراق المجال الجوي الجزائري خطأً فنياً أم رسالة مبطنة؟ وإذا كانت الرواية الأزوادية صحيحة، فهل يعني ذلك أن الجماعات المسلحة أصبحت قادرة على تغيير موازين القوى في المنطقة؟ الأسئلة كثيرة، والإجابات غير واضحة، لكن الثابت هو أن تين زواتين، هذه البقعة النائية على الخريطة والتي اشتهرت بسبب الالغاز حول الصراع حولها، قد تصبح الشرارة التي تشعل ناراً يصعب إخمادها.
•حسين أغ عيسى لنصاري
