تشهد منطقة الساحل الأفريقي في السنوات الأخيرة تحولات جيوسياسية ديناميكية، تعكس ملامح جديدة للسياسة الإقليمية والدولية.
فعلى وقع الانسحاب الفرنسي المتدرج من دول الساحل، يتحرك العالم نحو مرحلة جديدة من التحالفات والتعاون وتتجه الأنظار نحو قوى دولية وإقليمية جديدة، وعلى رأسها روسيا، التي تعزز حضورها عبر اتفاقات تعاون عسكري وأمني، مما يفتح المجال أمام استراتيجيات جديدة تهدف إلى معالجة التحديات الأمنية والاقتصادية في المنطقة.
من “هيمنة باريس” إلى “شراكة موسكو”
لطالما شكلت فرنسا الفاعل الأمني الأبرز في منطقة الساحل، من خلال قواتها المنتشرة لمكافحة الجماعات المسلحة، إلا أن هذه الهيمنة بدأت تتآكل. الانتقادات المتصاعدة للدور الفرنسي واتهامه بعدم تحقيق الاستقرار دفعت دولًا مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو إلى طرد القوات الفرنسية والسعي نحو شركاء جدد.
وفي خطوة لافتة، احتضنت موسكو اليوم قمة جمعت وزراء خارجية “تحالف دول الساحل” الثلاث (مالي، النيجر، بوركينا فاسو)، حيث جرت مباحثات موسعة مع الجانب الروسي ركزت على التعاون العسكري، وتزويد هذه الدول بالأسلحة والتدريب اللازم لمواجهة التهديدات الأمنية المتزايدة.
تحالفات جديدة على الساحة
ترافق هذا التحول مع انسحاب الدول الثلاث من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، وتشكيلها تحالف “ليبتاكو-غورما”، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون الأمني الإقليمي على أسس جديدة.
وهذا التكتل يرمز إلى رغبة متزايدة في الانفصال عن الأطر التقليدية التي تُتهم بالفشل في معالجة أزمات المنطقة.
قوى إقليمية في موقع الصدارة
على المستوى الإقليمي، تسعى دول مثل المغرب والجزائر وتركيا لتوسيع أدوارها في الساحل.
وفي هذا السياق، يروج المغرب لمبادرة أطلسية لربط دول الساحل بالمحيط الأطلسي، بينما تعمل الجزائر على تكثيف التعاون الاقتصادي مع جيرانها، رغم التوتر الأخير مع مالي.
أما تركيا، فتسعى عبر أدوات اقتصادية وعسكرية لبناء نفوذ متزايد في المنطقة.
روسيا تملأ الفراغ
يتقاطع هذا الواقع مع طموحات روسيا التي تنشط بشكل متسارع لملء الفراغ الذي خلفه انسحاب القوى الغربية، فموسكو ترى في الساحل بوابة استراتيجية نحو أفريقيا جنوب الصحراء، وتعتمد على علاقات متينة مع الأنظمة العسكرية في مالي والنيجر وبوركينا فاسو لتوسيع نفوذها.
ومن خلال المشهد الحديث، نستدرك أن التحول الجاري في الساحل لا يقتصر على تحالفات عسكرية جديدة، بل يعكس أيضا إعادة صياغة للتوازنات الإقليمية والدولية.
ومع استمرار التحديات الأمنية والإنسانية في المنطقة، يبدو أن السباق على النفوذ في الساحل لا يزال في بدايته، وسط طموحات محلية لإرساء نموذج تعاون جديد أقل ارتباطا بالقوى الاستعمارية التقليدية.
