ألقت معركة الفاشر بتطوراتها المتسارعة ضوءاً على معترك سياسي- أمني-إستخباراتي أمام المؤسسة العسكرية السودانية تشير الوقائع الأخيرة أنها تجتازه بثبات وتسير في صالح الجيش السوداني، فإستمرار نجاح القوات المسلحة السودانية في تكبيد مليشيا الدعم السريع خسائر مادية وبشرية متواصلة كان له تأثير إيجابي لمسناه حتى في تغيير لغة بعض المنابر الإعلامية التي كانت حتى عهد قريب تحاول إخفاء دعمها للمليشيا، ظناً منها بأن خلق إنتصارات “إعلامية” وهمية عشوائية لصالح وليدها المنتظر “الدعم السريع” سيساهم في تغيير قواعد اللعبة النفسية والعسكرية على الأرض، تناست وربما جهلت تلك المنابر ومن يقف ورائها بأن الوطن في فلسفة بعض الشعوب ليس هو ذلك الركن الذي نلوذ إليه كلما تصاعدت أطماعنا إقتراباً من السلطة، وليس هو الوجهة التي نتقاتل فيها لإقتناص وجاهة إجتماعية نداري خلفها نواقص أنفسنا، وليس هو المقام الذي نتبارى فيه كذباً وتشدقاً بما لا نشعر به إرضاءاً وتحقيقاً لجموحنا المادي، بتلك الكلمات الموجزة بدأت حديثي مع المحاور الفرنسي في صحيفة “Midiactu” الفرنسية والمتخصصة في الشؤون الإفريقية الذي بادرني بسؤالين محددين الأول حول إحتدام معركة الفاشر مع قرب زيارة البرهان للولايات المتحدة، وإنخراط “ياوندي” السلبي في الأزمة السودانية.
يدرك قادة المؤسسة العسكرية السودانية حقيقتان:
❖ الأولى: أن الأطراف الدولية الفاعلة في الساحة السودانية “واشنطن، بريطانيا، فرنسا” وإن كانت متوافقة ضمنياً على إقرار لم تعلن عنه وهو إستحالة هزيمة الجيش السوداني في هذه الحرب إلا إنها ما زالت تنتظر ما الذي ستؤول إليه الأمور في معركة الفاشر حتى تبدأ بعدها برسم الملامح والنتائج المحتملة للإجتماع المرتقب مع رئيس مجلس السيادة الإنتقالي وقائد القوات المسلحة السودانية الرئيس “عبد الفتاح البرهان” الذي سيعقد الشهر الجاري في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالتالي لابد من المحافظة على المكتسبات التي حققها الجيش السوداني مؤخراً ورديفه من القوات المشتركه والعمل على توسيعها لمضاعفة فرص إلجام الطامحين لتغيير قواعد اللعبة السياسية والأمنية والإجتماعية لصالح مليشيا الدعم السريع.
❖ الثانية: إعادة رسم الخارطة الدولية المستقبلية في سودان ما بعد البشير، لن تحدده معركة الفاشر فقط بل ستفرضه قريباً “معركة الخرطوم”، فإستعادة العاصمة السياسية ومرافقها الرسمية وضواحيها للسيطرة الكاملة للمؤسسات السودانية الوطنية هو المطلب الجمعي والشعبي الأول إيذاناً بدحر الجنجويد والقضاء عليه.
وعليه لابد من التمسك بالمطلب الذي يتوافق عليه الشعب السوداني كله ومفاده: لا عودة لما قبل 15 أبريل 2023 ، والتوافق الكامل على إنهاء مليشيا الدعم السريع ونزع سلاحها، بعد إدراك العالم أجمع بأن لا مستقبل لسودان جديد مستقر بوجود تلك المليشيا، خاصة أن طرح فكرة إدماج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني لم تعد مقبولة شعبياً، وتدرك واشنطن بأن عملية إقصاء مليشيات الدعم السريع عن المشهد السياسي السوداني وإن كانت ليست مستحيلة إلا أن الظروف المحيطة اليوم بالدولة السودانية وتنامي عمليات الإمداد العسكري للمليشيات تجعل الإقصاء صعباً، حتى وإن إندمجت تلك الميلشيات في صفوف المؤسسة العسكرية الوطنية السودانية فستبقى مليشيات “غير وطنية”، وبالتالي هي قادرة على الإنشقاق عن الجيش وإعادة ترتيب صفوفها وفرض واقع جديد متى ما تسنى لها ذلك، وبالتالي لابد من جدية واشنطن في تجفيف منابع الإمداد العسكري للمليشيات وهذا ما فشل المبعوث الأمريكي إلى السودان ” توم بيريللو” في إقناع إدارته به وهو ذات السبب الذي يدعم صحة الأنباء المتواردة بإقالة “بيريللو” بعد الإنتخابات الرئاسية في نوفمبر القادم مما يعني إنتظار مصداقة الكونجرس الأمريكي لمدة لا تقل عن سته أشهر كأقل تقدير حتى يتم تعيين مبعوث خاص للسودان.
أرى أن سير العمليات العسكرية المتقدمة التي يقودها الجيش السوداني مؤخراً والتي نجحت في تحييد وتحجيم الكثير من مكاسب مليشيات الدعم السريع هي من ستحدد موقف المجتمع الدولي من الأزمة السودانية في الوقت القادم، وستدفع القوى الدولية “واشنطن” إلى رفع غطاءها المستتر الداعم للمليشيات بعد إدراكها بإستراتيجية الجيش السوداني لتنويع عتاده العسكري مما يعزز صموده لمواجهة ما هو أكبر من دحر مليشيات متعددة الجنسيات، وبالتالي القبول بشروط الدولة السودانية المتمثلة بإقصاء مليشيا الدعم السريع نهائياً من المعادلة السياسية والأمنية في سودان ما بعد البشير هو الأسلم والمخرج للأزمة السودانية.
أما ما يتعلق بتدخل “الكاميرون” في الأزمة السودانية، فلقد أكدت بعض التقارير الصحفية إرسال معدات عسكرية للدعم السريع عبر ميناء دوالا الكاميروني، أرى أن هناك وجهة سريعة لإعادة ضبط العلاقات السودانية الكاميرونية وإبقاءها بعيدة عن دعم مليشيات الدعم السريع، وعليه يقترح على الخرطوم العمل على التقارب مع الزعماء السياسيين في منطقة “Dja-et-Lobo” التي ينحدر منها الرئيس الكاميروني “بول بيا” والرافضين إنخراط “ياوندي” في أي حروب إقليمية، ويمثلهم في ذلك وزير العدل “لوران إيسو” بدليل محاولة الأخير إستغلال ثغرة المشاكل القانونية المرتبطة برئيس هيئة ميناء دوالا “سايروس نجو” الحليف الأقرب للأمين العام لرئاسة الجمهورية “فرديناند نغوه”، فيمكن للخرطوم إستغلال حالة التشرذم السياسي التي تحيط بالحياة السياسية في الكاميرون وإنقسام الدائرة الداخلية للرئيس “بول بيا” بسبب إستفراد الأمين العام لرئاسة الجمهورية بالحكم في ظل إبتعاد الرئيس “بيا” عن السلطة، مما شجعه للحصول على موافقة عليا للتوقيع نيابة عن الرئيس، وتهميش رئيس الوزراء “جوزيف ديون”، وتطور الأمر إلى منع وزير الأقتصاد والمالية ” لويس بول ” وهو إبن شقيق الرئيس من الالتقاء به، بالإضافة إلى شخصيات قيادية أخرى على رأسهم مدير مكتب الرئيس “صامويل مفوندو”
ستنتهي معركة الفاشر بإنتصار الجيش السوداني، وهذا ما تدركه الأطراف الدولية جيداً بعد أن عجزت في التحكم بضبط ميزان مصالحها في السودان، وأثبتت تطورات الأحداث السودانية بأنها تسير عكس ما تم التخطيط له، وأدركت بعدها أن الأمور باتت تخرج خارج دائرة سيطرتها مما ينذر بدخول الاعبين الأنداد، وهو ذاته ما يفسر تسارع وتيرة الحراك الدولي الأخير حول الملف السوداني، ومحاولة التماهي مع القيادة السودانية من خلال إطلاق تصريحات متوافقة مع مزاج المؤسسة العسكرية الوطنية السودانية والتي تمثلت في تصريح المبعوث الأمريكي للسودان “توم بيريللو” قال فيها بالحرف “السودانيون لا يرغبون بأي دور سياسي للدعم السريع في المستقبل ونحن ندعم ذلك” في إشارة إلى طرح فكرة التخلص من ورقة حميدتي وتنامي حظوظ سيناريو ما يطلق عليه بالفرنسية “Démantèlement et remblayage ” ويعني باللغة العربية “التفكيك والردم” لقواته المتعددة الجنسيات،
وبالتالي سيتم القبول والتعاون مع مؤسسات الدولة السودانية الشرعية وترك مهمة تطهير تلك المؤسسات من الإخوان المسلمين وبقايا النظام السابق للشعب السوداني وحده الساعي لإستكمال تطلعاته لدولة مدنية حقيقية لا تجريم فيها ولا إقصاء لأبناء الوطن الواحد بحجة الإختلاف الفكري والتوجه الأيديولوجي فهذا ليس في ديدن الدول المحترمة “وفقاً لوجهة النظر الدولية” وهذا ما سيحدث .
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي