“
د. أمينة العريمي
منذ بداية الأزمة السودانية ١٥ أبريل ٢٠٢٣ حتى هذه اللحظة وصلتني رسائل عدة إتخذت طابع التحذير الذي وصل للترهيب حيناً والشتم والقذف وفبركة الصوروالأحاديث والتي لا تمت لي بصلة أحياناً أخرى، بسبب إتخاذي موقف داعم للجيش السوداني ضد مليشيات الدعم السريع المتعددة الجنسيات، ولا أخفيكم سراً بأنني لم أتوقف كثيراً حول تلك المهاترات التي ساقها هؤلاء الطالحين بمقدار ما توقفت أمام هويتهم، فقد أتفهم حقيقة مواقف “الغير سودانيين” من هذه الأزمة وإختلافهم حولها، ولكن لب التفهم سيصرع نفسه أمام كل سوداني يرى في مليشيات الدعم السريع وسيلة لولادة سودان ديموقراطيجديد، ونقول لهؤلاء السودان سينتصر ومؤسساته الوطنية هي الباقية ولو حشدتم جموعكم الغفيرة المغيبة، وعقدتم ألاف الندوات، وخطت صحافتكم المهترئة ألاف الدراسات لمناقشة السياسات التي إتخذتها حكومة الإنقاذ السابقة لقبول منتسبي قواتها المسلحة في محاولة منكم للتشكيك في إنتماء ووطنية الجيش السوداني، فهذا لن يغير الحقيقة التي بات يراها قادة المليشيا قبل خصومهم ولنا في سلسلة إنشقاق القيادات العليا في الدعم السريع خير دليل.
نعم أنا مع الجيش السوداني وضد أي محاولة لتقويض المؤسسات الوطنية في أي دولة، تلك المؤسسات ولدت مع الدولة التي لا وجود لكيانها بدون تلك المؤسسات، وبالتالي يمكن إصلاحها في حال فسادها فالمتحكم بها هم بشر وليسوا ملائكة حتى لا يخطئون، وبالتالي فهم قابلين للإصلاح كقابليتهم للجزاء والعقاب، وهنا يأتي التساؤل الأهم ما هذا الإصرار الذي تجاوز العرف والأخلاق والدين الساعي إلى تدمير الجيش السوداني وتجريفه وإقتلاع جذوره؟
قضيتنا ليس البرهان ولا قادة الجيش السوداني ولا حميدتي ومليشياته المتعددة الجنسيات، قضيتنا هو أن خط الدفاع الأول للدولة السودانية يتعرض لأكبر جريمة لن يغفرها التاريخ لمن ساهم فيها ودعمها وشارك بها حتى ولو بكلمة.
في فبراير الماضي من العام الجاري أجريت لقاءاً مع إحدى الشبكات الإعلامية الإفريقية الناطقة بالفرنسيةبعنوان “منبر جدة، مساعي ستحققها الخرطوم، وحقائق تدركها الرياض”، تناولت فيها أهم التحديات التي تواجه منبر جدة ( تجدونه منشوراً باللغة العربية في مركز مقديشو للبحوث والدراسات الإستراتيجية)، ومع قرب إعادة إنعقاد منبر جدة للمرة الثالثة والمقرر في مايو الجاري حول الأزمة السودانية وصلتني رسالة صوتية من أحد الزملاء الفرنسيون العاملون في الحقل الإعلامي يقول فيها نصاً ” أي أهمية تلك التي سيأتي بها منبر جدة القادم ؟ وأية نتائج تلك التي سيخرج بها ذلك المنبرالذيلم ينجح حتى في تبني قرار يدعم وقف إطلاق النار بين الطرفين لأجل غير محدود؟ ما الجديد الذي سيحمله منبر جدة الثالث برأيك؟”، لم أقف كثيراً حول نص تلك الرسالة التي وإن كانت تحمل في طياتها الكثير التهكم والقليل من المعرفة إلا إنها كشفت لي ولأول مره توجه بعض الإعلاميين الغربيين المنقسم حول منبر جدة إلى ثلاثةمسارات:
▪ مسار يرى بأن مفتاح حل الأزمة السودانية في البيت الأبيض لا في منبر جدة ولا في جلسات مجلس الأمن الطارئة، وبالتالي تبقى الإرادة الدولية “واشنطن” هي الراعية الأولى والأخيرة لما سيتم التوافق بشأنه في “سودان ما بعد البشير”.
▪ مسار يرى بأن الإرادة الدولية لا يمكنها المضي قدماً بدون إقتسام الأدوار مع حلفائها، وبالتالي إنتفى منها دورها القديم كمحرك متحكم “وحيد” بمجريات الأحداث المتلاحقة.
▪ مسار يرى أن الإرادة الدولية تستخدم بعض حلفائها كأدوات منفذة لرؤيتها المستقبلية مقابل دعم أمنها القومي وتطوير مؤسساتها الأمنية والعسكرية، وترى بعض النخب الفكرية بأن هذا المسار هو سلاح ذو حدين فإما أن يأتي بنتائج متوافقة مع رؤية الإرادةالدولية مع تحمل الحليف “وحده” نتائج تدهور سياسته الخارجية مع الكثير من الدول، وإما أن يأتي بنتائج عكسية لا تخدم المصلحة العليا لتلك الإرادة وبالتالي لابد من إعادة توجيه بوصلة الحلفاء بما يتوافق مع الرؤية الدولية. (وهذا المسار لا تستخدمه الإرادة الدولية مع حلفائها الأنداد).
تلك المسارات التحليلية الأنفة الذكر والتي لا تعرج عنها الصحافة الغربية في تحليلها لمعظم القضايا السياسيةليست بخافية على خبرة المبعوث الأمريكي للسودان ” توم بيرييلو”، فهو ذاته يتبناها بدليل مساعيه الحثيثة لوضع حد للدعم الأجنبي الذي يصل للأطراف المتصارعة في السودان “الجيش السوداني، ميلشيات الدعم السريع”، فوفقاً للمخابرات الفرنسية بتاريخ “12 إبريل 2024” أن المبعوث الأمريكي إلتقى مؤخراً بمجموعة من المسؤولين المصريين والإماراتيين والسعوديين وأبلغهم صراحة بأن أولوية إدارته لحل الأزمة السودانية هو تحجيم الدعم الأجنبي لكافة الأطراف السودانية المتحاربة، وأكد “توم” بأن ذلك لن يتحقق إلا بإلتزام كافة الأطراف المشاركة في منبر جدة من تنفيذ ذلك، وأداً لبعض الأراء السياسية التي باتت تطال دور الولايات المتحدة من الأزمة السودانية ووصفه بأنه دور “ضبابي” بل لا يقل ضبابية عن موقف بعض الأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوداني “فرنسا”، ورغبة “بيرييلو” في تجنب الوقوع في دائرة المؤامرات التي وقع فيها “جون غودفري” السفير الأمريكي السابق في الخرطوم والتي إنتهت بمطالبة المشرعين الديموقراطيين والجمهوريين في الكونغرس بإبعاد “غودفري” وتعيين مبعوث خاص للسودان، وتبدو مخاوف المبعوث الأمريكي على إستكمال مهمته الدبلوماسية مبررة وفي محلها في ظل تدهور علاقة “السودان” مع أحد أطراف منبر جدة “الإمارات”، وإستمرار الصراع المسلح في الإقليم الغربي السوداني “دارفور” سعياً من بعض الأطراف لفصله عن الدولة السودانية، ويبقى التحديالأكبر الذي يواجهه “بيرييلو” هو إقناع كافة الأطراف المعنية بحضور منبر جدة المقرر إنعقاده في السادس من مايو الجاري في ظل تصاعد المؤشرات الداعمة إلى تأجيلهلأجل غير مسمى.
من جانب أخر أرى أن تعدد المساعي الداخلية والخارجيةلتقسيم الدولة السودانية بدءاً من إقليمها الغربي “دارفور”، يقدم للخرطوم اليوم فرصة سانحة لمواجهة ذلك من عدة محاور رئيسية:
❖ إفريقياً: دعم الرغبة الرواندية في تحجيم النفوذ الفرنسي الساعي إلى التمدد في منطقة البحيرات، وإنتهاز “الخرطوم” لحالة “التحفظ” الغاضب والمتصاعد في “كيغالي” ضد الدور الأمني والإستخباراتي الفرنسي الداعم لكينشاسا ضد الحضور الرواندي في الشرق الكونغولي، والذي تعزز بعد إنخراط بعض الأطراف الإقليمية الموالية لباريس في دعم العمليات العسكرية الفرنسية في شرق الكونغو، فيمكن للسودان ومن خلال وزير الخارجية السوداني الجديد “حسين عوض” بإعتباره سفيراً سابقاً للخرطوم في كيغالي ويمتلك خبرة واسعة في فهم تركيبة المؤسسة الأمنية والرئاسية الرواندية من طرح مبادرات داعمة لإستراتيجية الأمن الإقليمي التي تقودها “كيغالي” في القارة الإفريقية، فالرئيس الرواندي “بول كاغامي” يدرك خطورة المشروع السياسي العابر الحدود الذي يقوده قائد مليشيا الدعم السريع “حميدتي” والذي يستهدف تقويض الدولة الوطنية في إفريقيا، والقضاء على إستراتيجية الأمن الإقليمي، وبالتالي لو نجحت الخرطوم في التعاون مع كيغالي لمواجهة ذلك سيعاد طرح سيناريو التحالف الأمني الإفريقي بقوة وهذا ما تحتاجه السودان في هذا الوقت العصيب من عمر الوطن، وهذا سيناريو تسعى إليه كيغالي لضم دول الشرق والوسط والساحل الافريقي إليه خلال السنوات الخمس القادمة، مما يعني تعزز الفرص لحصار نشاط الجنجويد والقضاء عليه.
❖ دولياً: الترويج الإعلامي وباللغات العالمية لإيصال رسالة للمجتمع الدولي بصعوبة خضوع السودان لسيناريو التقسيم مرة أخرى، في ظل إستمرار تصاعد الدعم الشعبي للجيش السوداني الوطني،والذي تمثل بإعلان زعماء القبائل الكبرى في دارفور “المحاميد” و “الزغاوة” و “المساليت” الإنحياز للمؤسسات الوطنية وللقوات المسلحة السودانية، وتنامي موجة إنضمام الحركات المسلحة والحركات الموالية لها للجيش السوداني، هو ما ساهم في تسارع وتيرة الإنشقاقات في صفوف القيادات العليا لمليشيا الدعم السريع مثل اللواء “النور أحمد القبة” الذي إنضم مؤخراً لمجلس الصحوة الثوري ، و “حسن عبدالله” و “جمعة فضل” وأخرين .
❖ عسكرياً: العمل على عقد إتفاقيات أمنية مع كافة الأطراف التي ترى القيادة السودانية بأنها أطراف ” داعمة للدولة السودانية الوطنية” لتكثيف العمليات النوعية المسلحة ضد مليشيات الدعم السريع.
❖ دبلوماسياً: تطوير إستراتيجية خارطة الحلفاء الدوليين والإقليمين الداعمين للدولة السودانية، تزامناً مع تصريح نائب وزير الخارجية الروسي “ميخائيل بوغدانوف”، الذي شدد على الشراكة الإستراتيجية مع السودان، وأكد أن مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني، وزيارة وفد قطري إلى بورتسودان للقاء القيادات السودانية والتأكيد على دعم الدوحة للسيادة السودانية.
أرى أن ما يعيق الخرطوم من تبني بعض المبادرات الأمنية والسياسية المطروحة لتحجيم وحصار عمليات الدعم السريع بمساعدة أطرافاً إفريقية هو إفتقار بعض المؤسسات الوطنية السودانية للمعرفة الكاملة للخط الأمني والإستخباراتي والسياسي الذي تتبناه بعض القيادات الأفريقية “الجديدة” الداعمة للدولة السودانية،وهذا برأيي لا يشمل السودان فقط بل غالبية الدول الأفريقية الناطقة بالعربية، بالرغم من إلمام المؤسسات العسكرية الأفريقية في الوسط والغرب الإفريقي بمعظم القضايا الأمنية والإستراتيجية بالدول الإفريقية “العربية”،بدليل وجود فرق متخصصة في ملفات الدول الإفريقية “العربية” في كافة المؤسسات الأمنية بفروعها المختلفة في دول الوسط والغرب الإفريقي، وهذا ما أجده بأنه جاء معززاً وداعماً ومقنعاً للأطراف الدولية للدخول مسرعة لنادي الشراكات الأمنية مع دول الوسط والغرب الإفريقي.
د. أمينة العريمي
باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
afrogulfrelations_21@hotmail.com