بقلم د.أمينة العريمي باحثة إماراتية في الشأن الإفريقي
هناك حكمة بريطانية قديمة تقول “الفرصة تأتي متنكرة والذكي فقط هو من يقبض عليها”.
وجدت “مقديشو” فرصتها التاريخية لتعزيز سيادتها الوطنية ووحدة أراضيها في إندلاع الأزمة الصومالية الأثيوبية الأخيرة بعد توقيع أديس أبابا مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال تقضي بإعطاء إثيوبيا منفذ بحريعلى السواحل الصومالية دون علم الدولة الصوماليةالفيدرالية بذلك، وكانت مقديشو سترحب بكل تأكيد لأي خطوة إثيوبية لتعزيز التعاون الإقتصادي والسياسي والتجاري بين دول القرن الإفريقي إذا تم التوافق على ذلك مع القيادات السياسية في الدولة الفيدرالية بإعتبارهاالممثل الشرعي الوحيد للدولة الصومالية في المجتمع الدولي، ولكن خطوة أديس أبابا بالإكتفاء بالتنسيق مع هرجيسا جعل أديس أبابا في مواجهة حقيقية مع “مقديشو” إنتقلت بدورها إلى الجموع الشعبية الغاضبة في عموم الدولة الصومالية، ورغم توارد أنباء بإنسحابإثيوبيا من مذكرة التفاهم التي وقعتها مع إقليم أرض الصومال إلا أن ذلك لا يعني تخلي إثيوبي عن ذلك الحلم كل ما في الأمر أن حكومة رئيس الوزراء أبي أحمد أدركت بأن صومال اليوم ليست صومال التسعينات، والتقاطعات الدولية والإقليمية لها حساباتها في “البحر الأحمر” بإعتباره الرابط الوحيد الذي يربط القارات الثلاث “إفريقيا، أسيا، أوروبا”، وبالتالي ظهور لاعب جديد “إثيوبيا” على سطح ذلك الرابط يحتاج لما هو أكبر من تجاوز إثيوبي على سيادة دولة مستقلة تستطيع أن تعيد ذلك التجاوز وبكل سهوله إلى نصابه وهذا ما حدث.
هناك خطأ سياسي ودبلوماسي وقعت فيه حكومة رئيس الوزراء الأثيوبي أبي احمد عندما وقعت على إتفاقية مع إقليم أرض الصومال دون التشاور مع جمهورية الصومال الفيدرالية بإعتبارها الدولة المركزية لكافة الأقاليم الصومالية رضت بتلك الحقيقة “هرجيسا” أم لم ترضى، فمحاولة القفزعلى السيادة الصومالية التي تمارسها بعض دول الجوار الإقليمي للصومال “جيبوتي، إثيوبيا، كينيا” منذ عام 1991 حتى اليوم تراها تلك الدول “ضرورة واجبة” كلما شعرت ببدء توحد جديد يجمع حوله حراك صومالي وطني نحو المستقبل، ونراها اليوم دليل على إمعان تلك الدول في التقليل من حجم التقدم الذي أحرزته مقديشو مؤخراً بدءاً بنجاحها في إقناع الأطراف الدولية بإنهاء حظر الأسلحة المفروض على الصومال منذ ثلاثون عاماً، مروراً بقناعة الولايات الصومالية بضرورة دعم الوحدة الوطنية الصومالية وما إعلان “خاتومو” الأخير بإنضمامها كولاية مستقلة ضمن الصومال الفيدرالي إلا دليل على ذلك، وإنتهاءاًبتضافر الجهود الدولية الداعمة لأمن ووحدة وسيادة الأراضي الصومالية وما رفض البرلمان البريطاني الأخير بمناقشة إستقلال إقليم أرض الصومال، وتجاهل المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن في ديسمبر الماضي لإحتجاجالإقليم على قرار رفع حظر الأسلحة على الصومال بإعتبارهسيؤثر سلباً على هرجيسا إلا نجاحاً يضاعف رصيد الصومال في عيون مواطنيها، وبالتالي هذا السلوك الذي تبنته أديس أبابا مع هرجيسا أوقع “الأولى” في مأزق هي في غنى عنه، ولا أعتقد أن الدبلوماسية الأثيوبية بحنكتها التاريخية لم تضعه في حساباتها المستقبلية، خاصة أن الدكتور “أبي أحمد” قبل رئاسته للوزراء لم يكن مواطناً عادياً يجهل الوجدان التاريخي لشعوب منطقة القرن الإقريقي، بل كان شخصية متمرسة أمنياً وسياسياً ويدرك تماماً التراكمات النفسية ذات العمق التاريخي القديم التي تختلج صدور الشعوب الصومالية حتى تلك القاطنة في الأراضي الأثيوبية “أوجادين” والكينية “أنفدي” و “جيبوتي”، ناهيك عن صومالي الداخل والمهجر، ويبقى السؤال هنا أما كان من الأجدر لفريق رئيس الوزراء الأثيوبي وضع إعتبار أولي ورئيسي لتلك التراكمات ومعالجتها قبل الإقدام على خطوة تدرك أديس أبابا قبل غيرها بأنها ستساهم في عودة منطقة القرن الإفريقي لمربع 1977-1978 وما تلاه، والذي بالكاد خرجت منه وإن كانت تفاصيله التاريخية حاضرة وماثلة أمام أعين أجيال باتت تبني رؤيتها السياسية لمستقبل القرن الافريقي بناءاً على تلك التفاصيل الموغلة في القدم وما أعقبها من نتائج.
إطلالة بحرية إثيوبية على البحر الأحمر “رؤى خليجية“
يدرك الصوماليين بأن الرؤى السياسية الخليجية “متضادة” في العديد من الملفات وبالتالي هي لن تتوافق حول مسألة الميناء الأثيوبي، فإختلاف الرؤى السياسية الخليجية هو ما سيفاقم الوضع الأمني والسياسي في القرن الإفريقي.
أرى أن موقف الأطراف الخليجية الفاعلة في القرن الإفريقي “أبوظبي، الدوحة، الرياض” من حصول إثيوبيا على إطلالة بحرية على البحر الأحمر مرتبط بموقفها من الأزمة السودانية، فهناك أطراف خليجية داعمة لمحور “حميدتي -إثيوبيا” وترى في أديس أبابا عنصر هاماً لإنجاح مرحلة تفكيك مفاصل سودان البشير، وهناك أطراف تقف حجر عثرة أمام وصول قائد مليشيا الدعم السريع “حميدتي” للسلطة في الخرطوم ولكنها ترى في أديس أبابا حليفاً يمكن الإعتماد عليه في ضبط بوصلة القرن الإفريقي بإعتبارها العاصمة الأكثر حظوظاً وحضوراً لدى القوى الدولية، وبالتالي لا ضير من تعزيز فرصها “البحرية” كقوة صاعدة في الشرق الإفريقي، وتمتلك تلك الأطراف من الدبلوماسية والنفوذ ما يمكنها من إقناع “مقديشو” بضرورة التوافق مع “أديس أبابا” دون المساس بسيادتها الوطنية، وهناك أطراف وإن كانت لا تحبذ وصولقائد المليشيا “حميدتي” للسلطة في السودان إلا إنها مستعدة للتعامل معه “إذا لزم الأمر” ولكن التعامل يتم وفقاً لرؤيتها الخاصة وتطلعاتها المستقبلية في منطقة البحر الأحمر والتي قد تتعارض مع الأطراف الخليجية الأخرى، وبالتالي ستعمل على تطوير إستراتيجيتها في الصومال على حساب إثيوبيا تمهيداً لتشكيل محور موازي لمحور “حميدتي-إثيوبيا” وستجد دعم “إقليمي” يسانده ظهير شعبي واسع يتجاوز حدود القرن الإفريقي.
وبشي من التفصيل يمكن تقسيم الرؤى الخليجية للإطلالة البحرية الأثيوبية إلى ثلاثة أنواع :
– رؤية دولة الإمارات العربية المتحدة: ترى أبوظبي بأن الحضور الإثيوبي على البحر الأحمر عامل محوري وداعم لإستراتيجيتها المستقبلية على سواحل الشرق الإفريقي وباب المندب بإعتبارها الحليف الأقرب والمتوافق مع رؤيتها لأنظمة الحكم القادمة في تلك المنطقة، ومن ناحية أخرى تتوافق أديس أبابا مع أبوظبي في تبنيها نهج إجهاض كافة محاولات الأحزاب الإسلامية أو من يواليها من الوصول لسدة الحكم أو تمثيل تلك الدول في المحافل الدولية، ولنا أن نستذكر إستنكار بعض الجهات من إستمرار وجود عناصر “إسلامية” في وزارة الخارجية السودانية بعد سقوط نظام الإنقاذ وكأن ثورة ديسمبر المجيدة عندماقامت بإسقاط نظام فاسد كان عليها أن تأتي بنظام إقصائي يقصي أبناء الوطن الواحد فقط لإنتماءاتهمالأيديولوجية حتى وإن فاقت كفاءتهم العلمية وخبرتهم العملية نظرائهم من الأحزاب الأخرى، هذا الإقصاء المزمع تنفيذه لن يتحقق في سودان المستقبل وهنا تكمن القيمة الأخلاقية لثورة ديسمبر والتي لا تريد الأطراف المعنية أن تدركها لثورة شعبية قامت من أجل وطن يسع الجميع لا مجال فيه لتخوين المواطنوإقصاءه وتغييب عقول يحتاجها الوطن في أدق مرحلة يعيشها حتى وإن إختلفت إنتماءاتهم الفكرية، فلا جدوى ولا مجال لكل ذلك في شعوب نجحت في إنتزاعكرامتها مهما تصاعدت موجات العودة للمربع الأول.
أما صومالياً، فترى النخب الصومالية أن الإستراتيجيات بين الحلفاء في عمومها لا تتغير بتغير الأنظمة السياسية إلا أن استراتيجية الإمارات في الصومال لا ينطبق عليها ذلك “فوفقا لوجهة نظر صومالية” لا ترى مقديشو في أبوظبي حليفاً مؤتمناً والعكس صحيح حتى وإن إستمر حكم الرئيس حسن شيخ محمود لمائه عام ويعود ذلك إلى تداعيات الأزمة الخليجية 2017 التي ما زالت أثارها عالقة في الوجدان الشعبي الصومالي وما تبعها من تدهور في العلاقات الصومالية الإماراتية والتي وصلت لمستويات غير معهودة من تبادل الإتهامات بين الطرفين شهدتها الجامعة العربية ومجلس الأمن عام 2018، وإنعكسذلك على الرؤية الصومالية “شبة الشعبية” التي ما زال موقفها تجاه الحضور الإماراتي في القرن الافريقي حتى اليوم موقفاً “متحفظ” أقرب “للرفض”، وهذه الرؤية إنعكست على الواقع الصومالي “الديني” و”السياسي” مما سيجعل إتفاقية التعاون العسكري التي تم توقيعها بين أبوظبي ومقديشو في “مايو 2023” على المحك في ظل الأزمة الصومالية الأثيوبية والتي تبدو فيها أبوظبي “وفقاً لوجهة نظر صومالية” أقرب لأديس أبابا منها لمقديشو.
-.رؤية دولة قطر: ترى الدوحة بأن حصول إثيوبيا على إطلالة بحرية سيعزز من حضورها الأمني والسياسي في الخارطة الدولية وهو مطلوب خاصة في ظل التطورات التي تشهدها منطقة البحر الأحمر وباب المندب، وستدعم الدوحةذلك دون الإخلال بحق حليفها الأول “الصومال”، وسيساندها في ذلك إستراتيجيتها في القارة الإفريقية، فمنذ انخراط الدوحة في الملفات السياسية والأمنية عملت على كسب المكونات الشعبية مما ساهم في تعزيز إستراتيجيتها وتبني معظم النخب الإفريقية لخطها الدبلوماسي، وهذا ما سيجنب الدوحة الظهور بمظهر “المتأرجح” بين “مقديشو” و”أديس أبابا”، فقطر تدرك بأنحصول أديس أبابا على ميناء أو قاعدة بحرية على السواحل الصومالية لن يعرقله إحتجاجات الجامعة العربية أو تهديدات بعض الأطراف الإقليمية بالتدخل العسكريوالتي لا تملك أن تغير من الأمر شيء، النقطة الوحيدة التي قد تغير الموقف القطري من إثيوبيا برأيي هو تنامي حضور ميلشيا الدعم السريع في شرق السودان وتنامي فرص إحتمالية تحول الحدود الأثيوبية السودانية لمركز إمداد عسكري للمليشيات “وهذا ما ستعارضه الدوحة”.
–رؤية المملكة العربية السعودية: ترى الرياض بأن حضور إثيوبيا على البحر الأحمر هو سلاح ذو حدين، فالرياض من ناحية بحاجة إلى حليف قوي يطل على سواحلها الغربية ويمكن الإعتماد عليه ويحظى بثقة وقبولاً دولياً وإقليمياً ويمكن أن يساهم في تعزيز الأمن البحري للحدود الجنوبية السعودية في ظل التدهور السياسي والأمني في منطقة باب المندب وإستمرار ضبابية المشهد السياسي السوداني، ومن ناحية أخرى ما زالت الرياض تفتقر القدرة على تجاوز حالة الحذر التاريخي الذي ما زال يحيط بالدبلوماسية السعودية عند التعامل مع “إثيوبيا، وإرتيريا” وذلك يعود إلى التقلبات السياسية الداخلية لأسمره وأديس أبابا والتي تنعكس على رؤية تلك الأنظمة الحاكمة للدور السعودي في المنطقة.
ورغم التوزان الذي ستحدثه إثيوبيا في حالة حصولها على منفذ بحري إلا أنه سيفهم “مصرياً” بأنه دعم “سعودي -خليجي “مناكفاً” للقاهرة التي تحاول إنتهاز كافة الفرص لإضعاف الدولة الإثيوبية وإبعاد كل ما يسمح بتقويتها، خاصة أن هناك قناعة مصرية إثيوبية وإقليمية ودولية بأن أحد أسباب ضعف الدولة الأثيوبية أو إخفاقها في بعض الملفات هو إفتقارها لإطلالة بحرية تعزز نفوذها، فما هو قول القاهرة وهي تشهد نجاح إثيوبي جديد بعد سد النهضة سينقل أديس أبابا لأفاق جديدة كفاعل مهم في الخارطة الدولية؟
أما صومالياً ، فتدرك مقديشو وجوارها الإقليمي بأن تعزيز التعاون العسكري والأمني مع القاهرة لن يكون بذلك المستوى الذي تتطلع إليه القاهرة وترجوه الجموع الصومالية في ظل التفاهمات الدولية مع دول الجوار الإقليمي للصومال.
أرى أن الأطراف الخليجية ما زالت تفتقر لمعرفة جذور التراكمات الإجتماعية والنفسية التي أحاطت بالملفات السياسية الداخلية في القرن الإفريقي والتي إنعكستعلى سياساتها الخارجية وعزز ذلك بروز قناعة إفريقية لا تؤمن بإستقلالية الدور الخليجي وتراه بأنه دور” تنسيقي” تم بالتشاور مع الأطراف الدولية الفاعلة في القارة الإفريقية وبالتالي لا يمكن التعويل عليه إلا من خلال تلك الأطراف، ويبقى السؤال هنا والذي يجب علينا كخليجيين أن نحتشد للإجابة عليه هو كيف يمكن توحيد رؤيتنا السياسية ومصالحنا الإقتصادية ليس فقط في القرن الأفريقي بل في إفريقيا عموماً؟ وهل سنجد طريقة نتوافق فيها على توحيد تلك الرؤى أم ما زال التوجس والتربص يلف النفوس؟
ستنتهي الأزمة الصومالية الأثيوبية قريباً فلا أحد يرغب بتصعيد الخلاف بما فيهم أولئك الذين يتحكمون بقواعد اللعبة الدولية في القرن الافريقي، وسيتم التوافق على المدى “القريب إلى المتوسط” على حصول إثيوبيا “مستقبلاً” على منفذ بحري “قاعدة بحرية” بتوافق كافة الأطراف المعنية بغض النظرعن ماهية تلك الإطلالة البحرية وصفتها القانونية، وسيستمر العزوف الدولي عن مناقشة إستقلال إقليم أرض الصومال مع إستمرار التعامل معه بالتنسيق مع “مقديشو”، ومراقبة تطورات الأوضاع الأمنية والسياسية على البحر الأحمر وباب المندب، حتى إذا ما إقتضت المصلحة الدولية التغيير يمكن بعدها الحديث عن إستقلال إقليم، أو إبقاء الوضع على ما هو عليه، أو اللحاق بركب “خاتومو” بالإنضمام إلى الدولة الفيدرالية.