بقلم / د.أمينة العريمي باحثة إماراتية في الشأن الأفريقي
في زيارتي الآخيرة لمدينة “ويدا” في جمهورية بنين كانت لي ندوة هامه حول أبرز التحولات التي طرأت على الوجدان الإفريقي وساهمت اليوم في تشكّل التطورات السياسية المتلاحقة في القارة الإفريقية، إلتقيت في تلك الندوة بأبرز الباحثين في علم الأنثربولوجيا والإجتماع السياسي، فسألني أحد الحضور السؤال التالي هل هناك ثمة نقاط يتلاقى بها الوجدان العربي مع الوجدان الإفريقي وإذا كانت الإجابة نعم فما هي تلك النقاط وما الدليل عليها؟!
فأجبت بأن الوجدان العربي ملىء بالأسى والقهر وقلة الحيلة ولا أراه مختلفاً عما يختلج الوجدان الإفريقي من هموم مع إختلاف الظروف التاريخية والسياسية التي شكلت كلا الوجدانين، بدليل ما شهدته العواصم العربية عام 2011، الفرق بين الوجدان العربي والإفريقي هو آن الأطراف الدولية وأذنابها في المنطقة ساهمت في إجهاض أحلام الشعوب العربية بسرعة البرق حتى لا يتشكل نموذج ديمقراطي حقيقي مقبول شعبياً، أما في إفريقيا جنوب الصحراء فأرى أن الأمر سيطول ولن يتحقق لتلك الأطراف ووكلاؤها ما تريده بمثل تلك السرعة التي حققتها في الأراضي العربية بدليل ما حدث في مالي ونجاح باماكو إلى حد ما في إنتزاع سيادة قرارها السياسي الداخلي والخارجي ومحاولة النيجر وبوركينافاسو أن تحذو حذوها.
ما يحدث في السودان اليوم ليس مختلفاً عما حدث في غرب القارة، فلقد أدركت القوى الدولية منذ عقود أن ولادة القرن الإفريقي برؤية جديدة لن يتحقق إلا عبر الخرطوم، فالسودان في الإستراتيجية الأمريكية هو المركز وما جاوره جغرافياً هو الأطراف بعد ضمانها، ووجدت واشنطن في مرحلة ما بعد الرئيس البشير الفرصة مُهيأة لإعادة إنتاج مسرحاً تتصادم فيه مصالح خصومها، والتحكم بمستقبل منطقة القرن الإفريقي، فهي لا ترغب بحكم مدني حقيقي في السودان، وتوكيل بعض الأطراف الإقليمية بمساعدة بعض المكونات الداخلية لإجهاض ذلك بات واضحاً للعيان من خلال إطالة أمد الأزمة السودانية بين الجيش السوداني وميلشيا الدعم السريع حتى إذا ما خارت قوى الطرفين “وهذا هو الهدف” سيسهل بعدها الجلوس على طاولة النقاش ولا أقول المفاوضات فكلا الطرفان حينها سيكون أي شيء إلا أن يكون مفاوضاً.
في خضم التحضيرات لقمة الإيغاد “42” المرتقبة في كمبالا “يناير الجاري” لم تلاقي تلك التحضيرات إهتماماً واسعاً في الشارع السوداني، ولا نريد الخوض في أسباب رفض أحد الأطراف السودانية حضور القمة وقبول الأخر ولكننا نريد الإشارة إلى رؤية المكون الشعبي السوداني لتلك القمة، يدرك الشارع السوداني بوعيه السياسي بأن قمة الإيغاد لن تأتي بجديد تماماً كقمة جدة الأخيرة وما تلاها وما سيعقبها مستقبلاً إلا إذا سمحت الإرادة الدولية “واشنطن” بذلك، وسيناريو عزل القوات المسلحة السودانية التي تحاول بعض الجهات فرضه على الواقع السوداني لن ينجح -“حتى مع سفر الرئيس عبد الفتاح البرهان إلى طهران مؤخراً”- مهما تطاولت رقبة ميلشيا الدعم السريع وأقنعت داعميها عبثاً بأن لها اليد العليا في القتال كما تقول، أما المراهنة على تولي قائد ميلشيا الدعم السريع حكم السودان هو رهان خاسر ولا يحبذه الداخل السوداني والأطراف الدولية الفاعلة في المشهد السوداني التي تدرك أبعاد تولي قائد ميلشيا لحكم دولة بحجم السودان بموروثه الثقافي والديني والفكري والحضاري، ولا أعتقد أن “حميدتي” بمؤهلاته المتواضعة يدرك الأبعاد الدولية والإقليمية التي نسجتها الرؤية الدولية لسودان ما بعد البشير، فتلك الرؤية أكبر من أن يدركها حميدتي ومن وراءه فهم جميعهم أداة لتنفيذ تلك الرؤية ليس إلا، أما ما يتعلق بإعتماد بعض الأطراف الدولية على المليشيات في مسائل الهجرة فهذا يمكن أن يستمر حتى في حال إبعاد “حميدتي” عن المشهد ولن يكون هناك شرط للميلشيا بأن يتم إشراكها في الحكم “ستكون مدمجة في الجيش السوداني” وستقوم بذلك تحت إشراف الدولة السودانية.
هناك حقائق جليه أمام ميلشيا الدعم السريع لم تستوعبها وهذا ما يجعلها غير مؤهلة لحكم السودان:
- الأطراف الدولية وإن كانت تختلف مع أيديولوجية بعض الأنظمة السياسية إلا أن ذلك لم يمنعها من التعامل مع تلك الأنظمة، فنظام الحكم القادم في السودان حتى وإن كان إسلامياً فتلك الأطراف قادرة على التعامل معه بدليل إرتباط “باريس” مثلاُ بعلاقات وثيقة مع نظام الإنقاذ السابق ووصل التعاون والتنسيق للجانب الأمني والاستخباراتي وتم تتويجه بتسليم المطلوب أمنياً “إيليتش راميريز” الشهير “بكارلوس”، كما ساهمت باريس بعد ذلك في تطوير جهاز المخابرات السوداني، وهذه النقطة لا يدركها قائد الميليشيا “حميدتي” الذي ولقلة خبرته السياسية يتحدث مع الأطراف التي يتعامل معها وفقاً لما تريده تلك الأطراف فإذا تحدث مع الغرب حمل لواء الديموقراطية ودولة العقد الاجتماعي، واذا تحدث مع الخليجيين نادى بالقضاء على التيار الإسلامي، وكما قال الكاتب السوداني يوسف عبد المنان “الدعم السريع كيان له في اليوم الواحد أكثر من حالة”.
- العالم أمام تحولات مفصلية في منطقة القرن الإفريقي والبحر الأحمر وهناك مسائل أمنية وإستخباراتية دقيقة لا يتم التعامل معها إلا عبر الجيوش النظامية الخاضعة لنظام القوانين العسكرية، وبالتالي المحافظة على تماسك المنظومة الداخلية للجيش السوداني ستفرض على كافة الأطراف الإقليمية منها والدولية إدراك ذلك، فتفكيك الجيش السوداني أو محاولة تجريفه ستفرض واقع أمني خطير في الشرق الإفريقي لن تستطيع تلك الأطراف تحمل عواقبه.
- الأطراف الدولية المنخرطة في المشهد السوداني في تكوينها الداخلي لديها أحزاب وقواعد شعبية مؤثرة في القرار السياسي، ورأي عام يستطيع إسقاط الحكومات بسهولة، وبرلمانات حقيقية قادرة على إخضاع رؤساء تلك الحكومات للمسائلة والتحقيق، وجهاز رقابي شفاف في حال خروج سنت واحد من خزينة الدولة مما يجعل تلك الدول حريصة على إبقاء حضورها ودورها في سياق سياسي مقبول “داخلياً” و”دولياً”، وإن مارست خفية من خلال حلفائها ما يستوجب عقابها إلا إنها هي من ستجني النصيب الأكبر عند إقتسام الغنائم، مما يفرض على تلك الأطراف التضحية غالباً بحليفها حتى وإن حقق مرادها، وهذا يضاعف سيناريو التخلص من “حميدتي” أو يمعنى أصح “تصفيته”.